وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يُسَخِّرُونَ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بِبِلَالٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي حَرْفُ غَايَةٍ ; لِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ سِخْرِيًّا، أَيْ: لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ، فَكَانَ مَأْوَاهُمُ النَّارَ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَزَى أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: بِمَا صَبَرُوا، أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ، جَزَاهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْفَوْزَ بِجَنَّتِهِ، وَرِضْوَانَهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَهْزَؤُونَ بِالْكُفَّارِ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَالْكُفَّارُ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٨٣ \ ٣٤ - ٣٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [٧ \ ٤٩] وَقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٢ \ ٢١٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ، وَعَلَى قِرَاءَتِهِمَا فَمَفْعُولُ جَزَيْتُهُمْ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ جَنَّتِي إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ لِاسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ، مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ بِهِ لِجَزَيْتُهُمْ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ فَوْزَهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْفَوْزُ نَيْلُ الْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَدْرِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا أَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَبِثُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِغَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [٢٠ \ ١٠٣] وَالْعَشْرُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [٣٠ \ ٥٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute