فَالظَّنُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الظَّنَّ عَلَى الْيَقِينِ وَعَلَى الشَّكِّ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْيَقِينِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
وَقَوْلُ عَمِيرَةَ بْنِ طَارِقٍ:
بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدُ فِيكُمُ ... وَأَجْعَلُ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا
وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَرَوْنَ النَّارَ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا هِيَ تَرَاهُمْ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [٢٥ \ ١١ - ١٢] ، وَمَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ جُلُّ الِاعْتِقَادِ اصْطِلَاحٌ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا، الْمَصْرِفُ: الْمَعْدِلُ، أَيْ: وَلَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَكَانًا يَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِ وَيَعْدِلُونَ إِلَيْهِ، لِيَتَّخِذُوهُ مَلْجَأً وَمُعْتَصَمًا يَنْجُونَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْرِفِ عَلَى الْمَعْدِلِ بِمَعْنَى مَكَانِ الِانْصِرَافِ لِلِاعْتِصَامِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
أَزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ ... أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، مِنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ، فَهِيَ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ نَظَرًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا [١٨ \ ٥٤] ، أَيْ: رَدَّدْنَا وَكَثَّرْنَا تَصْرِيفَ الْأَمْثَالِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ. لِيَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ، وَيَتَّعِظُوا. فَعَارَضُوا بِالْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ، وَالْمَثَلُ: هُوَ الْقَوْلُ الْغَرِيبُ السَّائِرُ فِي الْآفَاقِ، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [٢ \ ٢٦] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الْآيَةَ [٢٢ \ ٧٣] ، وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٢٩ \ ٤١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute