«يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ ! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ» ، أَيْ: تَتَدَلَّى أَمْعَاؤُهُ.
وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» ، قَالَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . اهـ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ غَيْرَهُ أَدْعَى لِقَبُولِ غَيْرِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ ... بِهِ تَلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَعَزَّ جَانِبَهُ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ كُفَّارٌ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِدِينِهِ قَدْ يُعِينُهُ اللَّهُ، وَيُعِزُّهُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي صَالِحٍ وَقَوْمِهِ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ. الْآيَةَ [٢٧ \ ٤٩]
فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا السُّوءَ بِصَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا فِي حَالِ الْخَفَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ خَفَاءً وَسَرِقَةً لَكَانُوا يَحْلِفُونَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ عَصَبَتُهُ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا بِهِ سُوءًا، وَلَا شَهِدُوا ذَلِكَ وَلَا حَضَرُوهُ خَوْفًا مِنْ عَصَبَتِهِ. فَهُوَ عَزِيزُ الْجَانِبِ بِسَبَبِ عَصَبَتِهِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: