وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: يُجَارُونَ، أَيْ: لَيْسَ لِتِلْكَ الْآلِهَةِ مُجِيرٌ يُجِيرُهُمْ مِنَّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [٢٣ \ ٨٨] فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢٣ \ ٨٨] وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنَا جَارٌ لَكَ وَصَاحِبٌ مِنْ فَلَانٍ، أَيْ: مُجِيرٌ لَكَ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا ... لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِي
يَعْنِي: لِيُجَارَ وَيُغَاثَ مِنَّا. وَأَغْلَبُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: يُنْصَرُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: لَا يَصْحَبُهُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ، وَلَا يَجْعَلُ الرَّحْمَةَ صَاحِبًا لَهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضْرَابَ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ انْتِقَالِيٌّ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَؤُلَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ الْآيَةَ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنِ اتَّخَذَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَّعَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَآبَاءَهُمْ قَبْلَهُمْ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا حَتَّى طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ، فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الطُّغْيَانِ، وَاللَّجَاجِ فِي الْكُفْرِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الْكُفَّارَ وَيُمْلِي لَهُمْ فِي النِّعْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَضَلَالًا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [٣ \ ١٧٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [٧ \ ١٨٢ - ١٨٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [٢٥ \ ١٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [٤٣ \ ٢٩] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعُمْرُ يُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ الْعَيْشِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute