للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [٥ \ ٥٤] وَفِي «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [١٥ \ ٨٨] وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [١٧ \ ٢٣] بِأَنَّا نُوَضِّحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّلِّ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا وَفَاؤُنَا بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَيَكْفِينَا فِي الْوَفَاءِ بِهِ أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَنَا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ: «مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ» .

فَقَدْ قُلْنَا فِيهَا، مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [١٧ \ ٢٤] أَنَّ الْجَنَاحَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ الْجَنَاحَ يُطْلَقُ لُغَةً حَقِيقَةً عَلَى يَدِ الْإِنْسَانِ وَعَضُدِهِ وَإِبِطِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [٢٨ \ ٣٢] وَالْخَفْضُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ مُرِيدَ الْبَطْشِ يَرْفَعُ جَنَاحَيْهِ، وَمَظْهَرُ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ يَخْفِضُ جَنَاحَيْهِ، فَالْأَمْرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْوَالِدَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ لَهُمَا، وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا ; كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِ خَفْضَ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَا ... حِ فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا

وَأَمَّا إِضَافَةُ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ، فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ.

فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَاخْفِضْ لَهُمَا الْجَنَاحَ الذَّلِيلَ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَوِ الذَّلُولَ عَلَى قِرَاءَةِ الذُّلِّ بِالْكَسْرِ، وَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي تَمَّامٍ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:

لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمَلَامِ فَإِنَّنِي ... صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي

جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: صُبَّ لِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمَلَامِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَتَيْتَنِي

<<  <  ج: ص:  >  >>