الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ اسْتِعْمَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْ مَفْعُولَيْ بَابِ كَسَا وَمِنْهُ «أَعْطَى» فِي الْآيَةِ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الْأَخِيرِ إِنْ أَمِنَ اللَّبْسُ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ الْجَرْيَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَيُلْزَمُ الْأَصْلُ لِمُوجِبٍ عَرَا ... وَتَرْكُ ذَاكَ الْأَصْلِ حَتْمًا قَدْ يُرَى
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ صِنْفٍ شَكْلَهُ وَصُورَتَهُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى الشَّكْلَ الْمُنَاسِبَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمُنَاكَحَةِ، وَالْأُلْفَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ. وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ الْمُلَائِمَ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَنُوطَةِ بِهِ فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا! مَا أَعْظَمَ شَأْنِهِ وَأَكْمَلَ قُدْرَتِهِ! !
وَفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا:
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٨٨] .
وَقَدْ حَرَّرَ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنِ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْآيَاتِ لَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا مُتَضَادًا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ تَنَوُّعِيٍّ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ جَمِيعَهُ، فَيَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى شُمُولِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَوْضَحَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَارِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «مَهْدًا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ. وَالْمَهْدُ بِمَعْنَاهُ. وَكَوْنُ أَصْلِهِ مَصْدَرًا لَا يُنَافِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ اسْمًا لِلْفِرَاشِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِي مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ لِـ «رَبِّي»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute