وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي.
الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [٧ \ ١٤٢] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢٤ \ ٦٣] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [٣٣ \ ٣٦] ، فَجَعَلَ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَانِعًا مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجِبًا لِلِامْتِثَالِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ \ ١٢] ، فَوَبَّخَهُ هَذَا التَّوْبِيخَ الشَّدِيدَ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ افْعُلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [٢٠ \ ١١٦] ،. وَجَمَاهِيرُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُمَاثِلٌ لَهَا. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ ... وَقِيلَ لِلنَّدْبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ
. . إِلَخْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَارُونَ قَالَهُ لِأَخِيهِ مُوسَى يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ [٧ \ ١٥٠] ،. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [٢٠ \ ٩٤] ، مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ هَارُونَ. أَيْ: خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ تَقُولَ لِي لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أَيْ: لَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي وَتَمْتَثِلْ أَمْرِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute