ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ قَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا، وَلَوْلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّحْضِيضِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَهَذَا التَّعَنُّتُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ هُنَا مِنْ طَلَبِهِمْ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ رُؤْيَتَهُمْ رَبَّهُمْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [١٧ \ ٩٢] وَقَوْلِهِمْ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ قِيلَ: فَتُوحَى إِلَيْنَا كَمَا أُوحَتْ إِلَيْكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الْآيَةَ [٦ \ ١٢٤] وَقِيلَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فَنَرَاهُمْ عِيَانًا، وَهَذَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [١٧ \ ٩٢] أَيْ مُعَايَنَةً عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (لَا يَرْجُونَ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَرْجُونَ أَيْ لَا يَخَافُونَ لِقَاءَنَا لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ. وَالرَّجَاءُ يُطْلَقُ عَلَى الْخَوْفِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الطَّمَعِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا قَالَ أَيْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبِ عَوَاسِلَ
فَقَوْلُهُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا: أَيْ لَمْ يَخَفْ لَسْعَهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِطْلَاقُ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَا يَأْمُلُونَ، وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِابْنِ شَجَرَةَ وَقَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
أَيْ أَتَأْمُلُ أُمَّةٌ إِلَخْ. وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ لَا يَخَافُ لِقَاءَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ بِالْعَذَابِ، وَلَا يَأْمُلُ الْخَيْرَ مِنْ تِلْقَائِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالثَّوَابِ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ أَضْمَرُوا التَّكَبُّرَ عَنِ الْحَقِّ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاعْتَقَدُوهُ عِنَادًا وَكُفْرًا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [٤٠ \ ٥٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا أَيْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute