[٤٣ \ ٢٣] ، لَفْظٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى أَنَّ الرُّسُلَ أَمَرَتْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَتَبَجَّحُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ: أَنَّ مَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَنَّ هَذَا مَجَازٌ تَنْزِيلًا لِإِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُوجِبِ لِبَطَرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، كَلَامٌ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ إِبْطَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ "، وَالرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ مُنْصِفٌ عَارِفٌ فِي بُطْلَانِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْمَأْلُوفِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، أَيْ أَمَرْتُهُ بِالطَّاعَةِ فَعَصَى. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِالْعِصْيَانِ كَمَا لَا يَخْفَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسَخَّرْنَاهُمْ لَهُ ; لِأَنَّ كَلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ كَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [٥٤ \ ٥٠] ، وَقَوْلِهِ: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٢ \ ٦٥] ، وَقَوْلِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [١٠ \ ٢٤] ، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ \ ٨٢] .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ " أَمَرْنَا " بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، أَيْ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَرْنَا بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَآمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ مَالِ امْرِئٍ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ ".
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (الْغَرِيبِ) : الْمَأْمُورَةُ: كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَالسِّكَّةُ: الطَّرِيقَةُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخْلِ. وَالْمَأْبُورَةُ: مِنَ التَّأْبِيرِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الذَّكَرِ عَلَى النَّخْلَةِ لِئَلَّا يُسْقَطَ ثَمَرَهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِتْيَانَ الْمَأْمُورَةِ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُجَرَّدًا عَنِ الزَّوَائِدِ، مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَتَّضِحُ كَوْنُ أَمْرِهِ بِمَعْنَى أَكْثَرَ، وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَعَدِّي أَمْرِ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى الْإِكْثَارِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَالُوا: حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ الِازْدِوَاجِ، كَقَوْلِهِمْ: الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَكَحَدِيثِ " ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ " ; لِأَنَّ الْغَدَايَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا سَاغَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute