الظَّاهِرِيَّةِ ; لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ سُؤَالِ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ وَعَمَلِهِ بِفُتْيَاهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ الْعَامِّيُّ يَسْأَلُ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُفْتِيهِ فَيَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; كَمَا أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتِهَادُ الْعَالِمِ حِينَئِذٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ فِي تَفَهُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْرِفَ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ - لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، وَكَانَ جَارِيًا بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَسَنُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَشْرِ» مَسْأَلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ، وَاسْتِنْبَاطِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، قِيَاسًا كَانَ الْإِلْحَاقُ أَوْ غَيْرُهُ، وَنُبَيِّنُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ، وَنُوَضِّحُ رَدَّ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَالنَّظَّامِ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِأَحَادِيثَ وَآيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، وَبِشُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ حَتَّى يَتَّضِحَ بُطْلَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِهِ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ الْكَرِيمِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ» وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّهُ إِلْحَاقُ مَسْكُوتٍ عَنْهُ بِمَنْطُوقٍ بِهِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ; أَعْنِي الْفَرْقَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ \ ٢٣] ، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّأَفُّفِ الْمَنْطُوقِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٩٩ \ ٧، ٨] فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمِثَالِ الذَّرَّةِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِثَابَةِ بِمِثْقَالِ الْجَبَلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ الْآيَةَ [٦٥ \ ٢] ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ مَسْكُوتًا عَنْهَا.
وَنَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى الْآيَةَ [٤ \ ١٠] ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute