قَالُوا: وَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسَرَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا يُعْجِبَهُ، بَلْ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَقِّ لَا مِنَ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مَا قَرَّرَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ زَادَ السُّرُورُ بِالْأَمْرِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِاعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ; لِأَنَّ سُرُورَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ فِي وَلَدِ حُرَّةٍ، وَصُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا: إِنَّ صُورَةَ السَّبَبِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ، وَعَقَدَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ ... وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: لَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُ الْقَافَةِ فِي شَبَهِ مَوْلُودٍ بِرَجُلٍ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ آخَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شِدَّةَ شَبَهِ الْوَلَدِ الَّذِي اخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَهُ هَذَا الشَّبَهُ فِي النَّسَبِ لِكَوْنِ أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ ; فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّبَهَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّسَبِ، فَقَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «احْتَجِبِي عَنْهُ» مَعَ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي
قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْبُهْتُ وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَسَاقَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ، وَقَوْلُهُ «لَا نَقْفُو أُمَّنَا» أَيْ لَا نَقْذِفُ أُمَّنَا وَنَسُبُّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاصِنَ إِنْ قُفِينَا
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute