وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ - أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [٣٤ \ ٩] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْآيَةَ [٦ \ ٦٥] ، وَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [٦٧ \ ١٦ - ١٧] ، وَقَوْلِهِ «فِي قَوْمِ لُوطٍ» : إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [٥٤ \ ٣٤] ، وَقَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [٥١ \ ٣٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْحَاصِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهَا السَّحَابَةُ أَوِ الرِّيحُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ كُلَّ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ تُسَمَّى حَاصِبًا وَحَصْبَةً، وَكُلُّ سَحَابَةٍ تَرْمِي بِالْبَرَدِ تُسَمَّى حَاصِبًا أَيْضًا ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ
وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا ... أَذْيَالَهَا كُلُّ عُصُوفٍ حَصِبَهْ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [١٧ \ ٩٦] ، «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» . أَيْ تَابِعًا يَتْبَعُنَا بِالْمُطَالَبَةِ بِثَأْرِكُمْ ; كَقَوْلِهِ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [٩١ \ ١٤، ١٥] ، أَيْ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ تَبِعَةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَكُلُّ مُطَالِبٍ بَدِينٍ أَوْ ثَأْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ تَبِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ يَصِفُ عُقَابًا:
تَلُوذُ ثَعَالِبُ الشَّرَفَيْنِ مِنْهَا ... كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ
أَيْ: كَعِيَاذِ الْمَدِينِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي يُطَالِبُهُ بِغُرْمِهِ مِنْهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
غَدَوْا وَغَدَتْ غِزْلَانُهُمْ وَكَأَنَّهَا ... ضَوَامِنُ غُرْمٍ لَهُنَّ تَبِيعُ
أَيْ خَصْمُهُنَّ مُطَالَبٌ بَدِينٍ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ الْآيَةَ [٢ \ ١٧٨] ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: «تَبِيعًا» أَيْ نَصِيرًا، وَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: نَصِيرًا ثَائِرًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute