وَقَوْلُ ابْنِ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ:
إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا ... مُصَفَّقًا مُؤْصَدًا عَلَيْهِ الْحِجَابُ
فَالْمُرَادُ بِالْإِيصَادِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: الْإِطْبَاقُ وَالْإِغْلَاقُ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِالْوَصِيدِ وَهُوَ الْبَابُ، وَيُقَالُ فِيهِ أَصِيدٌ، وَعَلَى اللُّغَتَيْنِ الْقِرَاءَتَانِ فِي قَوْلِهِ: «مُؤْصَدَةٌ» مَهْمُوزًا مِنَ الْأَصِيدِ. وَغَيْرَ مَهْمُوزٍ مِنَ الْوَصِيدِ.
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْوَصِيدَ عَلَى الْبَابِ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْعَبْسِيِّ، وَقِيلَ زُهَيْرٌ:
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدَّ وَصَيْدُهَا ... عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
أَيْ لَا يُسَدَّ بَابُهَا عَلَيَّ، يَعْنِي لَيْسَتْ فِيهَا أَبْوَابٌ حَتَّى تُسَدَّ عَلَيَّ ; كَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَصِيدُ هُوَ الْبَابَ فِي الْآيَةِ، وَالْكَهْفُ غَارٌ فِي جَبَلٍ لَا بَابَ لَهُ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الَّذِي يُدْخَلُ لِلشَّيْءِ مِنْهُ ; فَلَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَدْخَلِ إِلَى الْكَهْفِ بَابًا، وَمَنْ قَالَ: الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ فِنَاءَ الْكَهْفِ هُوَ بَابُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ: أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَتَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَا كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، كَقِرَاءَةِ «وَكَالِبُهُمِ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» ، وَقِرَاءَةِ «وَكَالِئُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ» .
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ قَرِينَةٌ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ; لِأَنَّ بَسْطَ الذِّرَاعَيْنِ مَعْرُوفٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَلْبِ الْحَقِيقِيِّ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ» ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَقِرَاءَةُ «وَكَالِئُهُمْ» بِالْهَمْزَةِ لَا تُنَافِي كَوْنَهُ كَلْبًا ; لِأَنَّ الْكَلْبَ يَحْفَظُ أَهْلَهُ وَيَحْرُسُهُمْ، وَالْكَلَاءَةُ: الْحِفْظُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ عَمَلِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ «بَاسِطٌ» فِي مَفْعُولِهِ الَّذِي هُوَ «ذِرَاعَيْهِ» وَالْمُقَرَّرُ فِي النَّحْوِ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ صِلَةَ «الْ» لَا يَعْمَلُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاقِعًا فِي الْحَالِ أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ؟