اللَّهِ الَّذِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي الْعَالَمِ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ [١٨ \ ٢٣] ، أَيْ: لَا تَقُولَنَّ لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ الشَّيْءَ غَدًا.
وَالْمُرَادُ بِالْغَدِ: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ لَا خُصُوصُ الْغَدِ. وَمِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْغَدِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمُ
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْغَدِ الْمُعَيَّنِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [١٨ \ ٢٤] ، إِلَّا قَائِلًا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَيْ: مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ لَا تَقُولَنَّهُ إِلَّا بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَعْنِي إِلَّا مُتَلَبِّسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَائِلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ،) يَعْنُونَ ذَا الْقَرْنَيْنِ (، وَعَنْ فِتْيَةٍ لَهُمْ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، يَعْنُونَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ» ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً، قِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَأَحْزَنَهُ تَأَخُّرُ الْوَحْيِ عَنْهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ فِي الرُّوحِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الْآيَةَ [١٧ \ ٨٥] ، وَقَالَ فِي الْفِتْيَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَاتِ [١٨ \ ١٣] إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِمْ، وَقَالَ فِي الرَّجُلِ الطَّوَّافِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [١٨ \ ٨٣] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسَبَبَ نُزُولِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِيهَا عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا» ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى بِضَمِيمَةِ بَيَانِ السُّنَّةِ لَهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِتْنَةُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ كَانَتْ أَشَدَّ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعِينَ امْرَأَةً، وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَقِيلَ لَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute