وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥ \ ٤١] ، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِهِمُ الْهَلَاكَ وَالْعَذَابَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [٢٦ \ ١٨٧] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ هُودٍ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [٤٦ \ ٢٢] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٧ \ ٧٧] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [٢٩ \ ٢٩] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [١١ \ ٣٢] .
فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ جَمِيعَهُمْ بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَإِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَقَوْمِ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَوْمِ هُودٍ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَقَوْمِ لُوطٍ بِجَعْلِ عَالِي قُرَاهُمْ سَافِلَهَا، وَإِرْسَالِ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ سَأَلُوا الْعَذَابَ كَمَا سَأَلَهُ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٨ \ ٣٢] ، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [٣٨ \ ١٦] ، وَأَصْلُ الْقِطِّ: كِتَابُ الْمَلِكِ الَّذِي فِيهِ الْجَائِزَةُ، وَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ: فَمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا أَيْ: نَصِيبَنَا الْمُقَدَّرَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي تَزْعُمُ وُقُوعَهُ بِنَا إِنْ لَمْ نُصَدِّقْكَ وَنُؤْمِنْ بِكَ، كَالنَّصِيبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ الْمَلِكُ فِي الْقِطِّ الَّذِي هُوَ كِتَابُ الْجَائِزَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ ... بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفَقُ
وَقَوْلِهِ «يَأْفَقُ» أَيْ: يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطَاءِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ أَوْلَى مِمَّا فِيهِ تَقْدِيرٌ إِلَّا بِحُجَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute