وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، أَيْ: أَكْثَرُ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ مِمَّنْ ذُكِّرَ، أَيْ: وُعِظَ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [١٨ \ ٥٧] ، أَيْ: تَوَلَّى وَصَدَّ عَنْهَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِقَرِينَةِ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيِ: الْقُرْآنَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْآيَاتِ، وَيُحْتَمَلُ شُمُولُ الْآيَاتِ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ: مَا ذُكِّرَ مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [٢ \ ٦٨] ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلْ أَيْ
: كِلَا ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [١٨ \ ٥٧] ، أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَهُ بَلْ هُوَ مُحْصِيهِ عَلَيْهِ وَمُجَازِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [٥٨ \ ٦] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [١٩ \ ٦٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [٢٠ \ ٥٢] ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ: تَرَكَهُ عَمْدًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَبِهِ صَدَّرَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ التَّذْكِرَةِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، قَدْ زَادَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَيَانَ أَشْيَاءَ مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ، وَالْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ، فَمِنْ نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ: مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ صَاحِبَهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ظُلْمًا، وَمِنْ نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ جَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ حَتَّى لَا تَفْقَهَ الْحَقَّ، وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ أَبَدًا كَمَا قَالَ هُنَا مُبَيِّنًا بَعْضَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [١٨ \ ٥٧] ، وَمِنْهَا انْتِقَامُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [٣٢ \ ٢٢] ، وَمِنْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute