للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيِ: الْحِكْمَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:

وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ ... إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ، أَوْ حُكْمُ الْكِتَابِ، أَوِ الْحِكْمَةُ، أَوِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، أَوِ اللُّبُّ وَهُوَ الْعَقْلُ، أَوْ آدَابُ الْخِدْمَةِ، أَوِ الْفِرَاسَةُ الصَّادِقَةُ، أَقْوَالٌ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُعْلَمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ بِفَهْمِ الْكِتَابِ السَّمَاوِيِّ فَهْمًا صَحِيحًا، وَالْعَمَلِ بِهِ حَقًّا، فَإِنَّ هَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَصْلُ مَعْنَى «الْحِكَمِ» الْمَنْعُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَمْنَعُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالنُّقْصَانِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: صَبِيًّا، أَيْ: لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: صَبِيًّا، أَيْ: شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، قِيلَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ ابْنُ سَبْعٍ، وَقِيلَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَحَنَانًا، مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمَ، أَيْ: وَآتَيْنَاهُ حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا، وَالْحَنَانُ: هُوَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْحَنَانِ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَنَانَكَ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ، بِمَعْنَى رَحْمَتَكَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

أَبِنْتَ الْحَارِثِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو ... لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ

وَيَمْنَحُهَا بَنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ... مَعِيزَهُمُ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ

يَعْنِي: رَحْمَتَكَ يَا رَحْمَنُ، وَقَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:

أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ ... بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ

وَقَوْلُ مُنْذِرِ بْنِ دِرْهَمٍ الْكَلْبِيِّ:

وَأَحْدَثُ عَهْدٍ مِنْ أَمِينَةَ نَظْرَةٌ ... عَلَى جَانِبِ الْعَلْيَاءِ إِذْ أَنَا وَاقِفُ

فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَاهُنَا ... أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالْحَيِّ عَارِفُ

فَقَوْلُهُ «حَنَانٌ» أَيْ: أَمْرِي حَنَانٌ، أَيْ رَحْمَةٌ لَكَ، وَعَطْفٌ وَشَفَقَةٌ عَلَيْكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>