إِلَّا رَمْزًا، وَقَوْلُهُ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ [١٩ \ ١١] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ، وَالْآيَةَ الْأُولَى أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَاللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِكَوْنِ الْإِشَارَةِ كَالْكَلَامِ ; لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: إِلَّا رَمْزًا، مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الرَّمْزَ الَّذِي هُوَ الْإِشَارَةُ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِذَا عَلِمْتَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْإِشَارَةِ، هَلْ هِيَ كَاللَّفْظِ أَوْ لَا؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، هَلْ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ أَوْ لَا، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى جُمَلًا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي آخِرِ بَابِ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ، مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَقَالُوا: تَكْفِي وَلَوْ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ، وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، ثَالِثُهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ نُطْقِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِنِ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ، وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ سَبَقَهُ كَلَامٌ، وَنُقِلَ عَنْ مَكْحُولٍ، إِنْ قَالَ: فُلَانٌ حُرٌّ، ثُمَّ أُصْمِتَ فَقِيلَ لَهُ: وَفُلَانٌ؟ فَأَوْمَأَ صَحَّ، وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ فَلَا تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ نُطْقِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتُلِفَ هَلْ يَقُومُ مِنْهُ مَقَامَ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ طَلْقَةٌ؟ فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ اللِّعَانِ، مَا نَصُّهُ: فَإِذَا قَذَفَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ الْإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا رَمْزًا إِشَارَةً، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِكَلَامٍ وَإِلَّا بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ يُلَاعِنُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبَيَّنَ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، وَقَالَ حَمَّادٌ: الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute