ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ
وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ: خَلْفٌ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ «سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا» ، فَخَلْفٌ فِي الذَّمِّ بِالْإِسْكَانِ، وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْحِ، هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَشْهُورُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفِ عُدُولُهُ» وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ
لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ
وَيُرْوَى: خَضَفْ، أَيْ: رَدَمَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَالرُّدَامُ: الضُّرَاطُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْخَلْفَ السَّيِّئَ الَّذِي خَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْكِرَامِ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ: أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِإِضَاعَتِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِضَاعَتُهَا الْإِخْلَالُ بِشُرُوطِهَا، وَمِمَّنِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا جَحْدُ وُجُوبِهَا، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ وَمَا قَبْلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: إِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ الْجَمَاعَاتِ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالُ بِالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَدْخُلُ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَعَدَمَ إِقَامَتِهَا فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْإِخْلَالَ بِشُرُوطِهَا، وَجَحْدَ وُجُوبِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَسَاجِدِ مِنْهَا كُلُّ ذَلِكَ إِضَاعَةٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعُ الْإِضَاعَةِ تَتَفَاوَتُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْخَلْفِ الْمَذْكُورِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُرْوَى عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتُونَ عِنْدَ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَزِقَّةِ زِنًى، وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ، وَفِيهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute