للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجَمِيعِ، وَإِلَى هَذَا الْإِبْطَالِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ [٦ \ ١٤٤] ، أَيْ: فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الذُّكُورَةَ لَحَرُمَ كُلُّ ذَكَرٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُنُوثَةَ لَحَرُمَتْ كُلُّ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَتِ اشْتِمَالَ الرَّحِمِ عَلَيْهِمَا لَحَرُمَ الْجَمِيعُ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكُمْ بِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، إِذْ لَمْ يَأْتِكُمْ مِنْهُ رَسُولٌ بِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [٦ \ ١٤٤] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ أَشْنَعِ الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَإِضْلَالٌ، بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٦ \ ١٤٤] ، ثُمَّ أَكَّدَ عَدَمَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [٦ \ ١٤٥] .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْطَالَ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٥٢ \ ٣٥] ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ، الْأُولَى: أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْ: بِدُونِ خَالِقٍ أَصْلًا، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونُوا خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَاطِلَانِ، وَبُطْلَانُهُمَا ضَرُورِيٌّ كَمَا تَرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِوُضُوحِهِ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا خَالِقُهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الدَّلِيلَ فِي غَرَضٍ لَيْسَ هُوَ غَرَضَ الْآخَرِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ أَعَمُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

اعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَوْصَافِ مَحِلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَتَصْحِيحُ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً كُلُّهَا فَيَتَحَقَّقُ بُطْلَانُ الْحُكْمِ الْمُسْتَنِدِ إِلَيْهَا، كَآيَةِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ [٦ \ ١٤٤] الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا بَاطِلًا وَبَعْضُهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>