عَالَمِينَ بِهَا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، فَلَا قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ السَّبْرَ الصَّحِيحَ يُظْهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ لَيْسَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ.
أَمَّا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا النَّاسَ وَلَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، فَدَعْوَةُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ إِلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَةِ لَهَا، وَكَانَ يَسَعُهُ مَا وَسِعَهُمْ.
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِهَا، فَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَا، فَظَهَرَ ضَلَالُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ الْوَاثِقِ، وَتَرَكَ الْوَاثِقُ لِذَلِكَ امْتِحَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَزَالَهَا اللَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى يَدِ الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الدَّلِيلِ التَّارِيخِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَشَى بِهِ وَاشٍ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَدْخَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ فِي مَحِلٍّ قَرِيبٍ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ نَادَى ابْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ ! فَقَالَ السَّلُولِيُّ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَاللَّهِ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قُلْتَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ ابْنُ هَمَّامٍ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِلْوَاشِي:
وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا ... فَخُنْتَ وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ
فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا ... بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: صَدَقْتَ. وَطَرَدَ الْوَاشِيَ.
وَحَاصِلُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الَّذَيْنِ طَرَدَ بِهِمَا ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّلُولِيِّ بِسُوءٍ بِسَبَبِهِمَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُكَ هَذَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ أَكُونَ ائْتَمَنْتُكَ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَيْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُلْتَهُ عَلَيَّ كَذِبًا، ثُمَّ رَجَعَ بِالسَّبْرِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاشِيَ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ائْتَمَنَهُ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَاهُ فَهُوَ خَائِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ التَّارِيخِيَّ الْعَظِيمَ يُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَوْقِفَ الْمُسْلِمِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute