مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ [٢٦ ٤٣] وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [٧ ١١٦] .
تَنْبيهٌ
قَوْلُ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: أَلْقُوا الْمَذْكُورُ فِي «الْأَعْرَافِ، وَطه، وَالشُّعَرَاءِ» فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ قَالَ هَذَا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ لِلسَّحَرَةِ أَلْقُوا. أَيْ: أَلْقُوا حِبَالَكُمْ وَعِصِيَّكُمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا السِّحْرَ وَعَارِضُوا بِهِ مُعْجِزَةَ اللَّهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا رَسُولَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ بِمُنْكَرٍ؟ ، وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ قَصْدَ مُوسَى بِذَلِكَ قَصْدٌ حَسَنٌ يَسْتَوْجِبُهُ الْمَقَامُ، لِأَنَّ إِلْقَاءَهُمْ قَبْلَهُ يَسْتَلْزِمُ إِبْرَازَ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَكَائِدِ السِّحْرِ، وَاسْتِنْفَادِ أَقْصَى طُرُقِهِمْ وَمَجْهُودِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ فِي إِلْقَائِهِ عَصَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَابْتِلَاعِهَا لِجَمِيعِ مَا أَلْقَوْا مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ مَا لَا جِدَالَ بَعْدَهُ فِي الْحَقِّ لِأَدْنَى عَاقِلٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا، فَلَوَ أَلْقَى قَبْلَهُمْ وَأَلْقَوْا بَعْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ «تُخَيَّلُ» بِالتَّاءِ، أَيْ: تُخَيَّلُ هِيَ أَيِ: الْحِبَالُ، وَالْعِصِيُّ أَنَّهَا تَسْعَى. وَالْمَصْدَرُ فِي «أَنَّهَا تَسْعَى» بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيُّ الَّذِي هُوَ نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ «تُخَيَّلُ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَالْمَصْدَرُ فِي سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى نَائِبُ فَاعِلٍ لِـ «تُخَيَّلُ» .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا حِبَالُهُمْ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَمَا أَشَارَ لِنَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ
وَ «إِذَا» هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَالْحِبَالُ: جَمْعُ حَبْلٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَ «الْعِصِيُّ» جَمْعُ عَصَا، وَأَلِفُ الْعَصَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَلِذَا تُرَدُّ إِلَى أَصْلِهَا فِي التَّثْنِيَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute