للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَاءَ تَلْقَفُ وَصْلًا. وَوَجْهُ تَشْدِيدِ التَّاءِ هُوَ إِدْغَامُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ بُدِئَ بِتَاءَيْنِ كَمَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَحَيِيَ افْكُكْ وَادَّغِمْ دُونَ حَذَرَ ... كَذَاكَ نَحْوُ تَتَجَلَّى وَاسْتَتِرْ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَوَّلُهُ نَحْوَ «تَتَجَلَّى» وَمِثَالُهُ فِي الْمَاضِي قَوْلُهُ:

تُولِي الضَّجِيجَ إِذَا مَا الْتَذَّهَا خَصْرًا ... عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلَ

أَصْلُهُ تَتَابَعَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ كَالْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ يَضُمُّ الْفَاءَ، فَالْمُضَارِعُ عَلَى قِرَاءَتِهِ مَرْفُوعٌ، وَوَجْهُ رَفْعِهِ أَنَّ جُمْلَةَ الْفِعْلِ حَالٌ، أَيْ: أَلْقِ بِمَا فِي يَمِينِكَ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَلَقِّفَةً مَا صَنَعُوا. أَوْ مُسْتَأْنِفَةً، وَعَلَيْهِ فَهِيَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهِيَ تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تَلْقَفْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مُخَفَّفَةً مَعَ الْجَزْمِ، مُضَارِعُ لَقِفَهُ بِالْكَسْرِ يَلْقَفُهُ بِالْفَتْحِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ مَعْنَى تَلَقَّفَهُ وَلَقِفَهُ إِذَا تَنَاوَلَهُ بِسُرْعَةٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّهَا تَبْتَلِعُ كُلَّ مَا زَوَّرُوهُ وَافْتَعَلُوهُ مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ الَّتِي خَيَّلُوا لِلنَّاسِ أَنَّهَا تَسْعَى وَصُنْعُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا صَنَعُوا وَاقِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى تَخْيِيلِهِمْ إِلَى النَّاسِ بِسِحْرِهِمْ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ تَسْعَى، لَا عَلَى نَفْسِ الْحِبَالِ، وَالْعَصِيِّ لِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ كَوْنِهِ أَمَرَ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ أَيْ: يَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَبْتَلِعُ مَا يَأْفِكُونَ مِنَ الْحِبَالِ، وَالْعِصِيِّ الَّتِي خَيَّلُوا إِلَيْهِ أَنَّهَا تَسْعَى أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [٧ ١١٧ - ١١٩] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [٢٦ ٤٥] فَذِكْرُ الْعَصَا فِي «الْأَعْرَافِ، وَالشُّعَرَاءِ» يُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي يَمِينِهِ فِي «طه» أَنَّهُ عَصَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَأْفِكُونَ أَيْ: يَخْتَلِقُونَهُ وَيَفْتَرُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْحِبَالَ، وَالْعِصِيَّ تَسْعَى حَقِيقَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَكَهُ عَنْ شَيْءٍ يَأْفِكُهُ عَنْهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) : إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ وَقَلَبَهُ. فَأَصْلُ الْأَفْكِ بِالْفَتْحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>