للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَنْبيهٌ

اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا، وَلَا مُحَالًا شَرْعِيًّا حَتَّى تُرَدَّ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ. لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ، كَالْأَمْرَاضِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْبَتَّةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاسْتِدْلَالُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّهُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةِ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [١٧ ٤٧] مَرْدُودٌ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَحْثِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا. قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا شَرَعُوهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ، ثُمَّ وَأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ. لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ. وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ. فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا، وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا، فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ. فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيِّلَ اللَّهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَطِئَهُنَّ وَهَذَا كَثِيرٌ مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ.

قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَلَفْظُهُ: «حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ» وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ «أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِيهِمْ» قَالَ الدَّاوُدِيُّ: «يُرَى» بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُظَنُّ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَتْ «يَرَى» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ. وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سُحِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَائِشَةَ، حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ. وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ. قَالَ عِيَاضٌ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: إِنْ يَكُنْ نَبِيَّنَا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ: قُلْتُ: فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>