للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَزِينًا جَزِعًا لِكُفْرِ قَوْمِهِ بِعِبَادَتِهِمْ لِلْعِجْلِ. وَقِيلَ: أَسِفًا أَيْ: مُغْتَاظًا. وَقَائِلُ هَذَا يَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَضَبِ، وَالْغَيْظِ: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ، وَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِالْغَيْظِ. حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا حَاجَةَ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ.

وَقَوْلُهُ غَضْبَانَ أَسِفًا حَالَانِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ التَّحْقِيقَ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْحَالِ مِنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ مَعَ كَوْنِ الْعَامِلِ وَاحِدًا. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدٍ ... لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ مُفْرَدٍ

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ مِنْ كَوْنِ مُوسَى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ آثَارِ غَضَبِهِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [٧ ١٥٠] . وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِنْ آثَارِ غَضَبِ مُوسَى إِلْقَاءَهُ الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا التَّوْرَاةُ، وَأَخْذَهُ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [٧ ١٥٠] وَقَالَ فِي «طه» مُشِيرًا لِأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ: قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [الْآيَةَ ٩٤] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى بِكُفْرِ قَوْمِهِ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [٢٠ ٨٥] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ يَقِينٌ لَا شَكَّ فِيهِ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَايَنَ قَوْمَهُ حَوْلَ الْعِجْلِ يَعْبُدُونَهُ أَثَّرَتْ فِيهِ مُعَايَنَةُ ذَلِكَ أَثَرًا لَمْ يُؤَثِّرْهُ فِيهِ الْخَبَرُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ، فَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَعَايَنَهُمْ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>