فَالْعُذْرُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [٢٠ ٩٢] .
وَالْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ بِمَلْكِنَا مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَلْكِنَا أَمْرَنَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ بِمَلْكِنَا الصَّوَابَ بَلْ أَخْطَأْنَا. فَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِالْخَطَأِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ: الزَّمَانُ، يُرِيدُ مُدَّةَ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ.
تَنْبيهٌ
كُلُّ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فِي الْقُرْآنِ مَجْزُومٌ بِـ «لَمْ» إِذَا تَقَدَّمَتْهَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامِ. كَقَوْلِهِ هُنَا: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مُضَارَعَتَهُ تَنْقَلِبُ مَاضَوِيَّةً، وَنَفْيَهُ يَنْقَلِبُ إِثْبَاتًا. فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ بِمَعْنَى وَعَدَكُمْ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَعْنَى شَرَحْنَا، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ جَعَلْنَا لَهُ عَيْنَيْنِ. وَهَكَذَا. وَوَجْهُ انْقِلَابِ الْمُضَارَعَةِ مَاضَوِيَّةً ظَاهِرٌ، لِأَنَّ «لَمْ» حَرْفُ قَلْبٍ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَوَجْهُ انْقِلَابِ النَّفْيِ إِثْبَاتًا أَنَّ الْهَمْزَةَ إِنْكَارِيَّةٌ، فَهِيَ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الْكَامِنُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ الصَّرِيحِ فِي «لَمْ» فَيَنْفِيهِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى الْإِثْبَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ فَيَقُولُ «بَلَى» وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا حَمَلُهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُوا بَلَى هَكَذَا. وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا إِلَى قَوْلِهِ بِمَلْكِنَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِمْ فِي شِدَّةِ غَضَبٍ مِمَّا فَعَلُوا وَعَاتَبَهُمْ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعِتَابِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الْآيَةَ [٢٠ ٨٦] فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ عِتَابِهِ لَهُمْ لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [٧ ١٥٠]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute