وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [١٧ \ ٩٧] .
تَنْبِيهٌ
فِي آيَةِ " طه " هَذِهِ وَآيَةِ " الْإِسْرَاءِ " الْمَذْكُورَتَيْنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قَدْ دَلَّتَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، وَزَادَتْ آيَةُ " الْإِسْرَاءِ " أَنَّهُ يُحْشَرُ أَبْكَمَ أَصَمَّ أَيْضًا، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [١٩ \ ٣٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا الْآيَةَ [١٨ \ ٥٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا الْآيَةَ [٣٢ \ ١٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَمَى، وَالصَّمَمِ، وَالْبَكَمِ حَقِيقَتُهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَبْصَارَهُمْ وَنُطْقَهُمْ وَسَمْعَهُمْ فَيَرَوْنَ النَّارَ وَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا، وَيَنْطِقُونَ بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ، وَلَا يَسْمَعُونَ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ، كَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَبْصِرُونَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْمَعُونَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ نَزَلَ مَا يَقُولُونَهُ وَيَسْمَعُونَهُ وَيُبْصِرُونَهُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ لَا شَيْءَ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ الْآيَةَ [٢ \ ١٨] مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ فِيهِمْ: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [٣٣ \ ١٩] ، وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [٦٣ \ ٤] ، أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ. وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [٢ \ ٢٠] ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَلَا شَيْءٍ: فَيَصْدُقُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْمَى وَأَصَمُّ وَأَبْكَمُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَعْنَبِ بْنِ أُمِّ صَاحِبٍ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute