للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْأَمْثَالَ كُلَّهَا قِيَاسَاتٌ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ الْمُمَثَّلِ مِنَ الْمُمَثَّلِ بِهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا تَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [٢٩ \ ٤٣] بِالْقِيَاسِ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنْ خَاصَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ رَكَّزَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَإِنْكَارَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَإِنْكَارَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَمَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ جَمْعِيَّةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّهُ إِمَّا اسْتِدْلَالٌ بِمُعَيَّنٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، أَوْ بِمُعَيَّنٍ عَلَى عَامٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى مُعَيَّنٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى عَامٍّ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَجَامِعُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْمُعَيَّنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ بِكُلِّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ وَمَدْلُولًا لَهُ. وَهَذَا النَّوْعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ، وَالثَّانِي: الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَالُ بِأَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّارِ عَلَى الْحَرِيقِ. وَالثَّانِي: كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى النَّارِ. وَالثَّالِثُ: كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى الدُّخَانِ. وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّلَازُمِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقِيَاسُ الْفَرْقِ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ، فَلَوْ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ لَانْسَدَّتْ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهُ.

قَالُوا: وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْعَامِّ فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، إِذْ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ لَمَا كَانَ هَذَا الْمَعَيَّنُ دَلِيلًا عَلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْ هَذَا أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ بِتَعْذِيبِ الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَعِصْيَانِ أَمْرِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ شَامِلٌ عَلَى مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى نَفْسِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَتَعْدِيَةِ هَذَا الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ إِخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَاتِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [٥٤ \ ٤٣] فَهَذَا مَحْضُ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى مَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمَ مِثْلِهِ لَمَا لَزِمَتِ التَّعْدِيَةُ وَلَا تَمَّتِ الْحُجَّةُ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عُقَيْبَ إِخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَةِ قَوْمِ هُودٍ حِينَ رَأَوُا الْعَارِضَ فِي السَّمَاءِ: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [٤٦ \ ٢٤] فَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>