وَالْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ هِيَ الْخَلَاقُ، فَاسْتَمْتَعُوا بِقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْسُ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ مِنَ الْخَلَاقِ الَّذِي اسْتَمْتَعُوا بِهِ.
وَلَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ لَكَانَ لَهُمْ خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ، فَتَمَتُّعُهُمْ بِهَا أَخْذُ حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ، وَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ إِلَّا لِدُنْيَاهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفُرُوعِ، فَقَالَ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَنَالُهُمْ مَا يَنَالُهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا. فَقِيلَ " الَّذِي " صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَالْمَخُوضِ الَّذِي خَاضُوا، وَقِيلَ: لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: كَخَوْضِ الْقَوْمِ الَّذِي خَاضُوا وَهُوَ فَاعِلُ الْخَوْضِ.
وَقِيلَ: " الَّذِي " مَصْدَرِيَّةٌ كَـ " مَا " أَيْ: كَخَوْضِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ مَوْضِعُ " الَّذِينَ ". وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ وَبَيْنَ الْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالِاعْتِقَادِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَهُوَ الْخَوْضُ، أَوْ يَقَعُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الْحَقِّ، وَالصَّوَابُ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْخَلَاقِ. فَالْأَوَّلُ الْبِدَعُ. وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ، وَبِهِمَا كُذِّبَتِ الرُّسُلُ وَعُصِيَ الرَّبُّ، وَدُخِلَتِ النَّارُ وَحَلَّتِ الْعُقُوبَاتُ.
فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشُّبَهَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ صِنْفَيْنِ: صَاحِبَ هَوًى فَتَنَهُ هَوَاهُ، وَصَاحِبَ دُنْيَا أَعْجَبَتْهُ دُنْيَاهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَهَذَا يُشْبِهُ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَفِي صِفَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا، وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا. وَهَذِهِ حَالُ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [٣٢ \ ٢٤] فَبِالصَّبْرِ تُتْرَكُ الشَّهَوَاتُ، وَبِالْيَقِينِ تُدْفَعُ الشُّبَهَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [١٠٣ \ ٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [٣٨ \ ٤٥] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute