مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ بِاللَّيْلِ عَلَى أَرْبَابِهَا، وَفِي النَّهَارِ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا فِي جِنَايَةِ الْبَهَائِمِ، وَيَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيْ: جَرْحُهَا هَدْرٌ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَامٌّ، وَضَمَانَ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا مُخَصِّصٌ لَهُ. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ مَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ بِغَيْرِ عِلْمِ مَالِكِهَا وَلَوْ لَيْلًا ضَمَانٌ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا رَعَاهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ فِي حَرْثِ غَيْرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالْمِثْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ قِيمَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا يَقُولُونَ: يَضْمَنُهُ أَصْحَابُهَا وَلَوْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا، خِلَافًا لِلَّيْثٍ الْقَائِلِ: لَا يَضْمَنُونَ مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفَاصِيلُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِحُكْمِهِمْ [٢١ \ ٧٨] الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُرَادٌ بِهَا سُلَيْمَانُ، وَدَاوُدُ، وَأَصْحَابُ الْحَرْثِ، وَأَصْحَابُ الْغَنَمِ، وَأَضَافَ الْحُكْمَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ حَاكِمًا وَمَحْكُومًا لَهُ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَفَهَّمْنَاهَا أَيْ: الْقَضِيَّةَ أَوِ الْحُكُومَةَ الْمَفْهُومَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [٢١ \ ٧٨] وَقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا [٢١ \ ٧٩] أَيْ: أَعْطَيْنَا كُلًّا مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حُكْمًا وَعِلْمًا. وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا عِوَضٌ عَنْ كَلِمَةٍ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَخَّرَ الْجِبَالَ، أَيْ: ذَلَّلَهَا، وَسَخَّرَ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ مَعَ دَاوُدَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَسْخِيرِهِ الطَّيْرَ وَالْجِبَالَ تُسْبِّحُ مَعَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ الْآيَةَ [٣٤ \ ١٠] . وَقَوْلِهِ: أَوِّبِي مَعَهُ أَيْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ. وَالطَّيْرَ أَيْ: وَنَادَيْنَا الطَّيْرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَرْجِيعِ التَّسْبِيحِ مَعَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ أَوِّبِي مَعَهُ: أَيْ: سِيرِي مَعَهُ، وَأَنَّ التَّأْوِيبَ سَيْرُ النَّهَارِ - سَاقِطٌ كَمَا تَرَى. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [٣٨ \ ١٧ - ١٨] .
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَجْعَلُ لَهَا إِدْرَاكَاتٍ تُسَبِّحُ بِهَا، يَعْلَمُهَا هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا. كَمَا قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute