أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الْعَرَبِ: مُرْضِعَةٌ، وَحَائِضَةٌ، وَطَالِقَةٌ. وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، مِنْ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ جِيءَ بِالتَّاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ النِّسْبَةُ جُرِّدَ مِنَ التَّاءِ، وَمِنْ مَجِيءِ التَّاءِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: (مُرْضِعَةٍ) دُونَ (مُرْضِعٍ) ؟
قُلْتُ: الْمُرْضِعَةُ الَّتِي هِيَ فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ. وَالْمُرْضِعُ: الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ، فَقِيلَ: (مُرْضِعَةٍ) ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا: نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ ; لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّا أَرْضَعَتْ الظَّاهِرُ أَنَّ «مَا» مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: أَرْضَعَتْهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أَيْ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَنْ إِرْضَاعِهَا.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَيُقَوِّي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً تَعَدِّي «وَضَعَ» إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: حَمْلَهَا لَا إِلَى الْمَصْدَرِ.
وَقَوْلُهُ: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا؛ أَيْ: كُلُّ صَاحِبَةِ حَمْلٍ تَضَعُ جَنِينَهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ، وَالْـ (حَمْلُ) بِالْفَتْحِ: مَا كَانَ فِي بَطْنٍ مِنْ جَنِينٍ، أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ مِنْ ثَمَرٍ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ؛ أَيْ: يُشَبِّهُهُمْ مَنْ رَآهُمْ بِالسُّكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَالْخَوْفُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي صَيَّرَ مَنْ رَآهُمْ يُشَبِّهُهُمْ بِالسُّكَارَى، لِذَهَابِ عُقُولِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، كَمَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّكْرَانِ مِنَ الشَّرَابِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى (بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ سُكَارَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ سَكْرَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَكْرَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ جَمَعُ سَكِرٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بِمَعْنَى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute