الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَالْبَلَاغِيُّونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، فِي مَعْنَى الْحَرْفِ. وَقَدْ وَعَدْنَا بِإِيضَاحِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَنَقُولُ هُنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، وَأَنَّ اللَّامَ فِي الْجَمِيعِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ عَلَى الْكَافِرِ فِي أَزَلِهِ أَنْ يُجَادِلَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي حَالِ كَوْنِهِ لَاوِيَ عُنُقِهِ إِعْرَاضًا عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتِكْبَارًا. وَقَدْ قَدَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ ضَالًّا مُضِلًّا. وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ؛ أَيْ: لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ. وَكَذَلِكَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الْآيَةَ [٢٨ \ ٨] ؛ أَيْ: قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْتَقِطُوهُ ; لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتِكْبَارِهِمْ أَوْضَحَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [٣١ \ ٧] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [٦٣ \ ٥] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [٤ \ ٦١] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [٣١ \ ١٨] ؛ أَيْ: لَا تُمِلْ وَجْهَكَ عَنْهُمُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ [٥١ \ ٣٨ - ٣٩] فَقَوْلُهُ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ بِمَعْنَى: ثَنَى عِطْفَهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ الْآيَةَ [١٧ \ ٨٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ [٢٢ \ ٩] ؛ أَيْ: ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ. وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ; كَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ ثَنَى عِطْفَهُ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضًا عَنْهُ عَامَلَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute