للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَشْهَدُ مَنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

قَوْلُهُ: يَحُجُّونَ، يَعْنِي: يُكْثِرُونَ قَصْدَهُ وَالِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَالتَّرَدُّدَ عَلَيْهِ. وَالسِّبُّ بِالْكَسْرِ: الْعِمَامَةُ. وَعَنَى بِكَوْنِهِمْ يَحُجُّونَ عِمَامَتَهُ: أَنَّهُمْ يَحُجُّونَهُ، فَكَنَّى عَنْهُ بِالْعِمَامَةِ.

وَالرِّجَالُ فِي الْآيَةِ: جَمْعُ رَاجِلٍ، وَهُوَ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْهِ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ وَنَحْوُهُ، الْمَهْزُولُ الَّذِي أَتْعَبَهُ السَّفَرُ. وَقَوْلُهُ «يَأْتِينَ» يَعْنِي: الضَّوَامِرَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ: كُلِّ ضَامِرٍ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: وَعَلَى ضَوَامِرَ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ «كُلِّ» صِيغَةُ عُمُومٍ، يَشْمَلُ ضَوَامِرَ كَثِيرَةً، وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ، وَجَمْعُهُ: فِجَاجٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [٢١ \ ٣١] وَالْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ... يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ

وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْعُمْقُ فِي الْبُعْدِ سُفْلًا، تَقُولُ: بِئْرٌ عَمِيقَةٌ؛ أَيْ: بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [٢٢ \ ٢٧] لِإِبْرَاهِيمَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِطَابَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ؛ أَيْ: وَأَمَرْنَا إِبْرَاهِيمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ؛ أَيْ: أَعْلِمْهُمْ، وَنَادِ فِيهِمْ بِالْحَجِّ؛ أَيْ: بِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ.

وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُبَلِّغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لَا يُنْفِذُهُمْ، فَقَالَ: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْحَجَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الصَّفَا. وَقِيلَ: عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ، حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ وَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ: هَذَا مَضْمُونُ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُطَوَّلَةً. انْتَهَى مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجَالًا مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ، وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>