صَرِيحًا انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، فَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ أَصَحُّ مَخْرَجًا، انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي السِّيَاقِ اسْتِمْرَارُ الْمَنْعِ غَلَطٌ مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بَلْ وَقَعَ فِي السِّيَاقِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِمْرَارِ الْمَنْعِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، صَرِيحٌ فِي اسْتِمْرَارِ مَنْعِ الْإِجْزَاءِ عَنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ «لَنْ» ، تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَنِ، فَهِيَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَنْ غَيْرِهِ، فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَنِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: «عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَمَا تَرَى.
وَالصَّوَابُ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ لَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَةَ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، فِيهِ أَصَحُّ سَنَدًا مِنْ زِيَادَةٍ نَحْوِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الْأَخِيرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ لَفْظَةَ: لَنْ: لَا تَدُلُّ عَلَى تَأْبِيدِ النَّفْيِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «الْمُغْنِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى لَنْ: وَلَا تُفِيدُ تَوْكِيدَ النَّفْيِ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيَ فِي كَشَّافِهِ، وَلَا تَأْبِيدَهُ خِلَافًا لَهُ فِي أُنْمُوذَجِهِ، وَكِلَاهُمَا دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ، قِيلَ: وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ، لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ فِي: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [١٩ \ ٢٦] ، وَلَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ فِي: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [٢ \ ٩٥] ، تَكْرَارًا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ بِإِفَادَةِ لَنِ: التَّأْبِيدَ يَجِبُ رَدُّهُ ; لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِحَالَةُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَاعِمًا أَنَّ قَوْلَهُ لِمُوسَى: لَنْ تَرَانِي [٧ \ ١٤٣] ، تُفِيدُ فِيهِ لَفْظَةُ لَنْ تَأْبِيدَ النَّفْيِ، فَلَا يَرَى اللَّهَ عِنْدَهُ أَبَدًا لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ مُعْتَزِلِيٌّ مَعْرُوفٌ بَاطِلٌ تَرُدُّهُ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِي ثُبُوتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَوْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَقْلًا فِي الدُّنْيَا لَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [٧ \ ١٤٣] ; لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ الْمُحَالَ فِي حَقِّ خَالِقِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا ثَابِتَةُ الْوُقُوعِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِفَادَةُ لَنِ التَّأْبِيدَ الَّتِي زَعَمَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْآيَةِ تَرُدُّهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute