الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، هَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ: هُوَ حَدِيثُ نَذْرِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَسْتَظِلُّ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ آنِفًا: أَنَّهُ لَا يَفِي بِهَذَا النَّذْرِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، مُوَضَّحًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ: هَذِهِ أَوْضَحُ الْحُجَجِ لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً، أَوْ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ. فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لَمَّا ذَكَرَهُ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الَّذِي لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ يُونُسَ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» اهـ، وَظَاهِرُهُ شُمُولُهُ لِلنَّذْرِ الَّذِي لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَحَمَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ يُرِيدُ الِامْتِنَاعَ مِنْ كَلَامِ زِيدٍ مَثَلًا: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا مَثَلًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ، أَوْ غَيْرُهَا، فَيُكَلِّمُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِنَا، وَحَمَلَهُ مَالِكٌ وَكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى النَّذْرِ الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّذْرِ، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي جَمِيعِ الْمَنْذُورَاتِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ.
وَلَا يَخْفَى بَعْدَ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، فَهُوَ أَمْرٌ جَازِمٌ مَانِعٌ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِيفَاءِ بِهِ، وَبَيْنَ شَيْءٍ آخَرَ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا كَأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرٌ، أَنَّهُ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: النَّذْرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute