وَقَالَتْ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: إِنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ قِسْمَانِ فَقَطْ، وَهُمَا: الْوَاجِبُ عَقْلًا، وَالْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا، قَالُوا: وَالْجَائِزُ عَقْلًا لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَزَعَمُوا أَنَّ دَلِيلَ الْحَصْرِ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا فِي أَزَلَهِ، بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ فَهُوَ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ لِاسْتِحَالَةِ عَدَمِ وُجُودِهِ مَعَ سَبْقِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ بِوُجُودِهِ، كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ عَقْلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَكَانَ عِلْمُهُ جَهْلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا فِي أَزَلِهِ، بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، إِذْ لَوْ وُجِدَ لَانْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِيمَانَ أَبِي لَهَبٍ، وَأَبِي بَكْرٍ كِلَاهُمَا يُجِيزُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ، فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ وُجُودَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْجَائِزَيْنِ فَأَوْجَدَهُ، وَشَاءَ عَدَمَ الْآخَرِ، فَلَمْ يُوجِدْهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ اسْتِحَالَةً ذَاتِيَّةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً، كَمَا لَا يَخْفَى.
أَمَّا الْجَائِزُ الذَّاتِيُّ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ جَائِزٌ، وَوَاقِعٌ إِجْمَاعًا كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَإِنِ اسْتَحَالَ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَهُمْ يُسَمُّونَ هَذَا الْجَائِزَ الذَّاتِيَّ مُسْتَحِيلًا عَرَضِيًّا، وَنَحْنُ نُنَزِّهُ صِفَةَ عِلْمِ اللَّهِ عَنْ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الِاسْتِحَالَةَ بِسَبَبِهَا عَرَضِيَّةٌ.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ الذَّاتِيِّ، كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُسْتَحِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ.
أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَمَشْيِ الْمُقْعَدِ، وَطَيَرَانِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ آلَةٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَنْعِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٢] ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤ \ ١٦] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ: فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ الذَّاتِيِّ عَادَةً وَعَقْلًا، وَبِالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ عَقْلًا مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute