وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَنْ غَصَبَ أَرْضًا، ثُمَّ سَكَنَ فِي وَسَطِهَا، ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْغَصْبِ نَادِمًا عَلَيْهِ، نَاوِيًا أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ بِسُرْعَةٍ، وَسَلَكَ أَقْرَبَ طَرِيقٍ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، فَهَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً، فِي وَقْتِ سَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ فَعَلَ فِي تَوْبَتِهِ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنِ الْغَصْبِ، لَمْ يَتِمَّ مَا دَامَ مَوْجُودًا فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَوْ كَانَ يَسِيرُ فِيهَا، لِيَخْرُجَ مِنْهَا.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِسَهْمٍ، ثُمَّ تَابَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَوَى أَلَّا يَعُودَ قَبْلَ إِصَابَةِ السَّهْمِ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي رَمَاهُ بِهِ بِأَنْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ وَالسَّهْمُ فِي الْهَوَاءِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَرْمِيِّ، هَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ سَهْمَهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى إِصَابَةِ مُسْلِمٍ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ فِي كُلِّ الْأَمْثِلَةِ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مَعْذُورٌ فِيهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٦] ، إِلَى آخِرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا قَرِيبًا.
وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُعْتَزِلَةِ كَابْنِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ: إِنَّ التَّائِبَ الْخَارِجَ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ آتٍ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْخُرُوجِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَالْمُكْثِ، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَحَقَّقُ عِنْدَ انْتِهَائِهِ إِذْ لَا إِقْلَاعَ إِلَّا حِينَئِذٍ، وَالْإِقْلَاعُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَالْخُرُوجُ عِنْدَهُ قَبِيحٌ ; لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلْإِقْلَاعِ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ الْمَذْكُورَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ عَنِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَهَذَا بِنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، لَكِنَّهُ أَخَلَّ بِأَصْلٍ لَهُ آخَرَ، وَهُوَ مَنْعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ خَرَجَ عَصَى، وَإِنْ مَكَثَ عَصَى، فَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الضِّدَّيْنِ كِلَيْهِمَا، اهـ، قَالَهُ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ» .
وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» مُقْتَصِرًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، بِقَوْلِهِ:
مَنْ تَابَ بَعْدَ أَنْ تَعَاطَى السَّبَبَا ... فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَجَبَا
وَإِنْ بَقِي فَسَادُهُ كَمَنْ رَجَعَ ... عَنْ بَثِّ بِدْعَةٍ عَلَيْهَا يُتَّبَعْ
أَوْ تَابَ خَارِجًا مَكَانَ الْغَصْبِ ... أَوْ تَابَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الضَّرْبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute