لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [٦٦ \ ٦] ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالِفَهُ عَاصٍ، وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا إِلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوِ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [٣٣ \ ٣٦] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ مَانِعٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَائِهِ الْوُجُوبَ، كَمَا تَرَى، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ مَعْصِيَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [٣٣ \ ٣٦] .
وَاعْلَمْ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْوُجُوبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً مَثَلًا، وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ فَعَاقَبَهُ السَّيِّدُ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ عِقَابُكَ لِي ظُلْمٌ ; لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً لَمْ تُوجِبْ عَلَيَّ الِامْتِثَالَ، فَقَدْ عَاقَبْتَنِي عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَلْزَمُنِي، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الصِّيغَةِ أَنَّ الِامْتِثَالَ يَلْزَمُهُ، وَأَنَّ الْعِقَابَ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، وَالْفِتْنَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ قِيلَ: هِيَ الْقَتْلُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَقِيلَ: السُّلْطَانُ الْجَائِرُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ بِسَبَبِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِتْنَةٌ مِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِيهِ أُطْلِقَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [٥١ \ ١٣] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [٨٥ \ ١٠] ، أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ.
الثَّانِي وَهُوَ أَشْهَرُهَا: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الِاخْتِبَارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الْآيَةَ [٢١ \ ٣٥] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [٧٢ \ ١٦ - ١٧] .
وَالثَّالِثُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى نَتِيجَةِ الِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [٢ \ ١٩٣] ، وَفِي «الْأَنْفَالِ» :
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute