اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ: مَرَجَ، تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ إِطْلَاقَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَرَجَ بِمَعْنَى: أَرْسَلَ وَخَلَّى، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَجَ دَابَّتَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا إِلَى الْمَرَجِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الدَّوَابُّ ; كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: أَرْسَلَ الْبَحْرَيْنِ وَخَلَّاهُمَا لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: مَرَجَ بِمَعْنَى: خَلَطَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَيْ: مُخْتَلِطٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَالْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْمَاءُ الْعَذْبُ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَالْمَاءُ الْمِلْحُ فِي جَمِيعِهَا.
وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ، يَعْنِي: بِهِ مَاءَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ، أَيِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ، كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِحَارِ الَّتِي هِيَ مِلْحٌ أُجَاجٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى خَلَطَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، وَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مُحَقَّقُ الْوُجُودِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هُوَ وَاقِعٌ فِيهَا الْمَحَلُّ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ نَهْرُ السِّنْغَالِ بِالْمُحِيطِ الْأَطْلَسِيِّ بِجَنْبِ مَدِينَةِ سَانْ لُوِيسْ، وَقَدْ زُرْتُ مَدِينَةَ سَانْ لُوِيسْ عَامَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ هِجْرِيَّةً، وَاغْتَسَلْتُ مَرَّةً فِي نَهْرِ السِّنْغَالِ، وَمَرَّةً فِي الْمُحِيطِ، وَلَمْ آتِ مَحَلَّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْمُرَافِقِينَ الثِّقَاتِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى مَحَلِّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَأَنَّهُ جَالِسٌ يَغْرِفُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَذْبًا وَفُرَاتًا، وَبِالْأُخْرَى مِلْحًا أُجَاجًا، وَالْجَمِيعُ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [٣٥ \ ١٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute