قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ، تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ.
مَسْأَلَتَانِ تَتَعَلَّقَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «يَرِيهِ» بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، مُضَارِعُ وَرَى الْقَيْحُ جَوْفَهُ، يَرِيهِ، وَرْيًا إِذَا أَكَلَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ وَرَاهُ أَصَابَ رِئَتَهُ بِالْإِفْسَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الشُّعَرَاءَ، بِقَوْلِهِ: يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [٢٦ \ ٢٢٤ - ٢٢٦] اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا الْآيَةَ [٢٦ \ ٢٢٧] .
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّ امْتِلَاءَ الْجَوْفِ مِنَ الْقَيْحِ الْمُفْسِدِ لَهُ خَيْرٌ مِنِ امْتِلَائِهِ مِنَ الشِّعْرِ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ، وَاشْتَغَلَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الشِّعْرِ الْقَبِيحِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكَذِبِ، وَالْبَاطِلِ كَذِكْرِ الْخَمْرِ وَمَحَاسِنِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّاعِرِ إِذَا اعْتَرَفَ فِي شِعْرِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ حَدًّا، هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُدُودُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فِي الشِّعْرِ ; لِأَنَّ كَذِبَ الشَّاعِرِ فِي شِعْرِهِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مُعْتَادٌ، وَاقِعٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا أَقَرَّ فِي شِعْرِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ هُنَا بِكَذِبِهِمْ فِي شِعْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدْرَأُ عَنْهُمُ الْحَدَّ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute