الْمَصْدَرِ، الَّذِي هُوَ النُّطْقُ ; لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ تَابِعٌ لِلْمُشْتَقِّ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فَهْمُهُ بِدُونِ فَهْمِهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَذْكُرُونَهُ مِنْ تَوْجِيهِ مَا ذُكِرَ.
وَمِثَالُ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةُ عِنْدَهُمْ فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، فِي زَعْمِهِمْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، قَالُوا: اللَّامُ فِيهَا كَلَفْظِ الْأَسَدِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ الْأَسَدِ لِمُشَابَهَةٍ بَيْنِهِمَا، قَالُوا: وَكَذَلِكَ اللَّامُ أَصْلُهَا مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَعِلَّةُ الشَّيْءِ الْغَائِيَّةُ هِيَ مَا يَحْمِلُ عَلَى تَحْصِيلِهِ لِيَحْصُلَ بَعْدَ حُصُولِهِ، قَالُوا: وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلِالْتِقَاطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ، هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالنَّفْعُ وَالتَّبَنِّي، أَيِ: اتِّخَاذُهُمْ مُوسَى وَلَدًا، كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [٢٨ \ ٩] ، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْتِقَاطِهِ، لِتَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ.
قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ، هُوَ ضِدُّ مَا رَجَوْهُ وَأَمَّلُوهُ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ وَالْحَزَنُ، شُبِّهَتِ الْعَدَاوَةُ وَالْحَزَنُ الْحَاصِلَانِ بِالِالْتِقَاطِ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي وَالنَّفْعِ، الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الِالْتِقَاطِ الْغَائِيَّةُ بِجَامِعِ التَّرَتُّبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ تَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْلُولِهَا دَائِمًا تَرَتُّبَ رَجَاءٍ لِلْحُصُولِ، فَتَبَنِّيهِمْ لِمُوسَى وَمَحَبَّتُهُ كَانُوا يَرْجُونَ تَرَتُّبَهُمَا عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُتَرَتِّبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْتِقَاطِهِمْ لَهُ هُوَ كَوْنُهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَحَزَنًا، صَارَ هَذَا التَّرَتُّبُ الْفِعْلِيُّ شَبِيهًا بِالتَّرَتُّبِ الرَّجَائِي، فَاسْتُعِيرَتِ اللَّامُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَتُّبِ الرَّجَائِي لِلتَّرَتُّبِ الْحُصُولِي الْفِعْلِيِّ الَّذِي لَا رَجَاءَ فِيهِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُزْنِ وَالْعَدَاوَةِ عَلَى الِالْتِقَاطِ أَشْبَهَ تَرَتُّبَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي عَلَى الِالْتِقَاطِ، فَأُطْلِقَتْ لَامُ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ فِي الْحُزْنِ وَالْعَدَاوَةِ، لِمُشَابَهَتِهِمَا لِلتَّنَبِّي وَالْمَحَبَّةِ فِي التَّرَتُّبِ، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، لِمُشَابَهَتِهِمَا فِي الشَّجَاعَةِ.
وَبَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ يَقُولُ: فِي هَذَا جَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ أَوَّلًا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّبَنِّي، وَبَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ اللَّذَيْنِ حُصُولُهُمَا هُوَ الْمَجْرُورُ، فَكَانَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي اللَّامِ تَبَعًا لِلِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَجْرُورِ ; لِأَنَّ اللَّامَ لَا تَسْتَقِلُّ فَيَكُونُ مَا اعْتُبِرَ فِيهَا تَبَعًا لِلْمَجْرُورِ، الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: فَجَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ أَوَّلًا فِي الْعَلِيَّةِ وَالْغَرَضِيَّةِ، وَتَبَعِيَّتُهَا فِي اللَّامِ، وَهُنَاكَ مُنَاقَشَاتٌ فِي التَّبَعِيَّةِ فِي مَعْنَى الْحَرْفِ تَرَكْنَاهَا، لِأَنَّ غَرَضَنَا بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِيجَازٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute