للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي، فَاخْتَمَرْنَ بِهَا، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَوْلُهُ: فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَرْمِيهِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْعَاتِقِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ التَّقَنُّعُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا مِنْ وَرَائِهَا وَتَكْشِفُ مَا قُدَّامَهَا فَأُمِرْنَ بِالِاسْتِتَارِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» .

وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النِّسَاءَ الصَّحَابِيَّاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِيهِ فَهِمْنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، يَقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَأَنَّهُنَّ شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ: سَتَرْنَ وُجُوهَهُنَّ بِهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ الْمُقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْمُنْصِفُ أَنَّ احْتِجَابَ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهَا وَجْهَهَا عَنْهُمْ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثْنَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى تِلْكَ النِّسَاءِ بِمُسَارَعَتِهِنَّ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ مَا فَهِمْنَ سَتْرَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَهُنَّ يَسْأَلْنَهُ عَنْ كُلِّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِنَّ فِي دِينِهِنَّ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [١٦ \ ٤٤] ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرْنَهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: ذَكَرْنَا عِنْدَ عَائِشَةَ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَلَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ «النُّورِ» : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، فَانْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ فِيهَا، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مُعْتَجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» .

وَمَعْنَى مُعْتَجَرَاتٍ: مُخْتَمِرَاتٍ، كَمَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَتَرَى عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَعَ عِلْمِهَا وَفَهْمِهَا وَتُقَاهَا أَثْنَتْ عَلَيْهِنَّ هَذَا الثَّنَاءَ الْعَظِيمَ، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهَا مَا رَأَتْ أَشَدَّ مِنْهُنَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فَهْمَهُنَّ لُزُومَ سَتْرِ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ مِنْ تَصْدِيقِهِنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِيمَانِهِنَّ بِتَنْزِيلِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ احْتِجَابَ النِّسَاءِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهُنَّ وُجُوهَهُنَّ تَصْدِيقٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِيمَانٌ بِتَنْزِيلِهِ، كَمَا تَرَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>