الصُّورِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْحَرَجِ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا، بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَفْعَالِ لَيْسَ إِلَّا لِمَا عَرَّفْنَاكَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى صَلَاةً لِآخِرِ وَقْتِهَا مَرَّتَيْنِ، فَرُبَّمَا ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مُتَحَتِّمٌ لِمُلَازَمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ طُولَ عُمُرِهِ فَكَانَ فِي جَمْعِهِ جَمْعًا صُورِيًّا تَخْفِيفٌ وَتَسْهِيلٌ عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.
وَقَدْ كَانَ اقْتِدَاءُ الصَّحَابَةِ بِالْأَفْعَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِالْأَقْوَالِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ نَحْرِ بُدْنِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالنَّحْرِ حَتَّى دَخَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ مَغْمُومًا فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْحَرَ وَيَدْعُوَ الْحَلَّاقَ يَحْلِقُ لَهُ فَفَعَلَ، فَنَحَرُوا جَمِيعًا وَكَادُوا يَهْلَكُونَ غَمًّا مِنْ شِدَّةِ تَرَاكُمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حَالَ الْحَلْقِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ "، وَفِي إِسْنَادِهِ حَنَشُ بْنُ قَيْسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، فِي آخِرِ " سُنَنِهِ " فِي كِتَابِ الْعِلَلِ مِنْهُ، وَلَفْظُهُ جَمِيعُ مَا فِي كِتَابِي هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ مَعْمُولٌ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَا خَلَا حَدِيثَيْنِ: حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ " الَخْ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّأْخِيرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْجَمْعُ الصُّورِيُّ، فَيَتَعَيَّنُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا الْجَمْعَ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مُطْلَقًا، لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً، مِنْهُمْ: ابْنُ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةُ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ.
وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَغَيْرُهُ وَحُجَّتُهُمْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: " لِئَلَّا تُحْرَجَ أُمَّتِي "، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْأَدِلَّةَ تُعَيِّنُ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ، كَمَا ذُكِرَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ
قَدِ اتَّضَحَ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي سُقْنَاهَا، أَنَّ الظُّهْرَ لَا يَمْتَدُّ لَهَا وَقْتٌ إِلَى الْغُرُوبِ، وَأَنَّ الْمَغْرِبَ لَا يَمْتَدُّ لَهَا وَقْتٌ إِلَى الْفَجْرِ، وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذَا الْوَقْتِ الْمَنْفِيِّ بِالْأَدِلَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute