النَّصَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا احْتَمَلَ التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ مَعًا وَجَبَ حَمَلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَمَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَآيَةُ «الصَّافَّاتِ» هَذِهِ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِلْمُنْصِفِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا إِسْحَاقُ يَقِينًا عُبِّرَ عَنْهُ فِي كُلِّهَا بِالْعِلْمِ لَا الْحِلْمِ، وَهَذَا الْغُلَامُ الذَّبِيحُ وَصَفَهُ بِالْحِلْمِ لَا الْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [١١ \ ٧١] ; لِأَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَشَّرَتْهَا بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ يَلِدُ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُؤْمَرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ عِلْمٌ يَقِينٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَلِدَ يَعْقُوبَ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُنْصِفِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الذَّبِيحِ هَذِهِ تُؤَيِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي حِكْمَةِ التَّكْلِيفِ، هَلْ هِيَ لِلِامْتِثَالِ فَقَطْ، أَوْ هِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ؟ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ حِكْمَةَ تَكْلِيفِهِ لِإِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ وَلَدَهُ لَيْسَتْ هِيَ امْتِثَالُهُ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَبْحُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ مُجَرَّدُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، هَلْ يُصَمِّمُ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [٣٧ \ ١٠٦ - ١٠٧] ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ. وَإِلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ:
لِلِامْتِثَالِ كَلَّفَ الرَّقِيبُ ... فَمُوجِبٌ تَمَكُّنًا مُصِيبُ
أَوْ بَيْنَهُ وَالِابْتِلَا تَرَدَّدَا ... شَرْطُ تَمَكُّنٍ عَلَيْهِ انْفَقَدَا
وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَمُوجِبٌ تَمَكُّنًا مُصِيبُ، وَقَوْلُهُ: شَرْطُ تَمَكُّنٍ عَلَيْهِ انْفَقَدَا، إِلَى أَنَّ شَرْطَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ فِي التَّكْلِيفِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، فَمَنْ قَالَ: إِنِ الْحِكْمَةَ فِي التَّكْلِيفِ هِيَ الِامْتِثَالُ فَقَطِ اشْتَرَطَ فِي التَّكْلِيفِ التَّمَكُّنَ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ لَا امْتِثَالَ إِلَّا مَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute