وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ شَامِلٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ، وَتَغْلِيبُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْأَنْعَامِ فِي ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: (يَذْرَؤُكُمْ) وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: «فِيهِ» رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلْآدَمِيِّينَ إنَاثًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْأَنْعَامِ أَيْضًا إِنَاثًا كَذَلِكَ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْوَاجِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْهُمَا مَعًا.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ (يَذْرَؤُكُمْ) ، أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيَبُثُّكُمْ وَيَنْشُرُكُمْ (فِيهِ) ، أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، أَيْ فِي ضِمْنِهِ عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
وَيُوَضَّحُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [٤ \ ١] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) مَعَ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ عَائِدٌ إِلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ أَوِ الْإِشَارَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ إِلَى مُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مَثَلًا.
وَمِثَالُهُ فِي الضَّمِيرِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ الْآيَةَ [٦ \ ٤٦] . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) مُفْرَدٌ، مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ.
فَقَوْلُهُ: يَأْتِيكُمْ بِهِ أَيْ بِمَا ذَكَرَ مِنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعَ الْبَهَقْ
فَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ خُطُوطٍ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقٍ.ُُ