وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْمَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلشَّرَابِ - جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [٦٧: ٣٠] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [٢٣ \ ١٨] ، لِأَنَّ الذَّهَابَ بِالْمَاءِ وَجَعْلَهُ غَوْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَجَعْلَهُ أُجَاجًا، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ بِجَامِعِ عَدَمِ تَأَتِّي شُرْبِ الْمَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقِهِمْ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ [٥٦ \ ٦٩] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَاءِ السَّاكِنِ فِي الْأَرْضِ النَّابِعِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَنَّ أَصْلَهُ كُلَّهُ نَازِلٌ مِنَ الْمُزْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ وَخَزَنَهُ فِيهَا لِخَلْقِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [٢٣ \ ١٨] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [٣٩ \ ٢١] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ الْآيَةَ [١٥ \ ٢٢] ، وَفِي سُورَةِ «سَبَأٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْآيَةَ [٣٤ \ ٢] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [٥٦ \ ٧٠] ، فَلَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، وَهِيَ حِرَفُ تَحْضِيضٍ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ شُكْرُ هَذَا الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّكْرَ يُطْلَقُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمِنَ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ.
فَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَنْحَصِرُ مَعْنَاهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ جَمِيعَ نِعَمِهِ فِيمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى. فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْعَيْنِ أَلَّا يَنْظُرَ بِهَا إِلَّا مَا يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ. وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ أَوَامِرَ رَبِّهِ وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ شَاكِرَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [٥٦ \ ٧٠] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [٢ \ ١٥٢] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا شُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ فَهُوَ أَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [٢ \ ١٥٨] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [٣٥ \ ٣٤] ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute