(وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) : هَذَا هُوَ التَّكَافُلُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي الْأُمَّةِ.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) : الْمُنْقَطِعُ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُوَاصَلَاتِ.
فَكَانَ مَصْرِفُهُ بِهَذَا الْعُمُومِ دُونَ اخْتِصَاصِ شَخْصٍ بِهِ أَوْ طَائِفَةٍ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
وَإِنَّهُ لَمِنْ مَوَاطِنِ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ هَذَا التَّشْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ [٥٩ \ ٧] ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي أَمْرٍ يَمَسُّ الْوَتَرَ الْحَسَّاسَ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ مَوْطِنُ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ أَلَا وَهُوَ كَسْبُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ صِنْوُ النَّفْسِ، وَالَّذِي تَوَلَّى اللَّهُ قِسْمَتَهُ فِي أَهَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ.
قَسَّمَهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا فُرُوضَهُ، وَحِصَّةَ كُلِّ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَكَسْبٌ إِجْبَارِيٌّ. وَالنُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةٌ إِلَيْهِ فَتَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ، وَحَرَّمَ الْغُلُولَ فِيهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
وَمَثَلُ هَذَا الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَلِفُوا قِسْمَتَهُ مَغْنَمًا، وَالَّذِي بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْمُهَجَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَيُقَسَّمُ الْمَنْقُولُ فَقَطْ، وَلَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ الثَّابِتُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: حَدَثَ هَذَا كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ سَوَاءٌ الْأَغْنِيَاءُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى الْجِهَادِ أَوِ الْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ بِمَا حَصَّلُوهُ مِنْ مَغَانِمَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ لَابُدَّ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ نَحْوَ هَذَا الْمَالِ، وَفِعْلًا نَاقَشُوا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ - وَلَكِنْ هُنَا يَأْتِي سَوْطُ الطَّاعَةِ الْمُسَلَّتُ، وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ الْمُسَكِّتُ إِنَّهُ عَنِ اللَّهِ أَتَاكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي جَمِيعِ التَّشْرِيعِ إِلَّا أَنَّهَا هُنَا أَخَصُّ، وَهِيَ بِهِ أَقْرَبُ، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجُ.
وَهُنَا يَنْتَقِلُ بِنَا الْقَوْلُ إِلَى مَا آتَانَا بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي هَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ أَيْ: مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَمْوَالِ.
لَقَدْ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارُ يُؤْثِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى شُحِّ نُفُوسِهِمْ، فَمُجْتَمَعُهُمْ مُجْتَمَعُ بَذْلٍ وَإِعْطَاءٍ وَتَضْحِيَةٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute