إِلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [٤٣ \ ٦٧ - ٧٣] إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَتُحِلَّهُمْ مَقْعَدَ صِدْقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [٥٤ \ ٥٤ - ٥٥] .
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ مَنْزِلَةُ التَّقْوَى مِنَ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ وَفِي كُلِّ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَأَنَّهَا هُنَا فِي مَعْرِضِ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَتَكْرَارِهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّاعِرُ السَّعَادَةَ كُلَّ السَّعَادَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، وَهُوَ لِجَرِيرٍ:
وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ ... وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ
فَتَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ الزَّادِ ذُخْرًا ... وَعِنْدَ اللَّهِ لِلْأَتْقَى مَزِيدُ
وَالتَّقْوَى دَائِمًا هِيَ الدَّافِعُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، الرَّادِعُ عَنْ كُلِّ شَرٍّ، رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَجِيءِ قَوْمٍ مِنْ مُضَرَ، مُجْتَابَيِ الثِّمَارِ وَالْعَبَاءَةِ، حُفَاةٍ عُرَاةٍ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَيَتَمَعَّرُ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا يُنَادِي لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [٤ \ ١] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ ": يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ الْآيَةَ [٥٩ \ ١٨] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ " الْحَدِيثَ. فَكَانَتِ التَّقْوَى دَافِعًا عَلَى سَنِّ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ تَهَلَّلَ لَهَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا أَنَّهَا تَحُولُ دُونَ الشَّرِّ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا [٢ \ ٢٨٢] ، وَقَوْلُهُ: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [٢ \ ٢٨٣] ، فَإِنَّ التَّقْوَى مَانِعَةٌ مِنْ بَخْسِ الْحَقِّ وَمِنْ ضَيَاعِ الْأَمَانَةِ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ مَرْيَمَ فِي طُهْرِهَا وَعِفَّتِهَا لَمَّا أَتَاهَا جِبْرِيلُ وَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [١٩ \ ١٨] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute