للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِحِزْبَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ حِزْبُ الرَّحْمَنِ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ صُورَةُ الْمُجْتَمَعِ فِي الْمَدِينَةِ آنَذَاكَ.

ثُمَّ تَأْتِي إِلَى مُقَارَنَةٍ أُخْرَى بَيْنَ نَتَائِجِ هَذَيْنِ الْحِزْبَيْنِ وَمُنْتَهَاهُمَا وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرُ الْمَصِيرِ: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [٥٩ \ ٢٠] .

وَهَذِهِ أَخْطَرُ قَضِيَّةٍ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أَيْ: تَقْرِيرُ مَصِيرِهَا، ثُمَّ بَيَانُ حَقِيقَةِ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ وَفَعَالِيَّتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ جَبَلًا أَشَمَّ أَوْ حَجَرًا أَصَمَّ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَرَأَيْتُهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَإِذَا بِهَا قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَوْضُوعِ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ، وَالْأُمَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْبَدْءِ وَالنِّهَايَةِ، وَصِرَاعِ الْحَقِّ مَعَ الْبَاطِلِ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالنُّفُوسِ فِي الشُّحِّ وَالْإِحْسَانِ، وَكُلُّهَا مَوَاقِفُ عَمَلِيَّةٌ وَمَنَاهِجُ وَاقِعِيَّةٌ وَأَمْثِلَةٌ بَيَانِيَّةٌ.

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.

فَإِذَا مَا تَوَجَّهَ الْفِكْرُ فِي هَذَا الْعَرْضِ، وَتَنَقَّلَ مِنْ مَوْقِفٍ إِلَى مَوْقِفٍ، وَتَأَمَّلَ صُنْعَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَآيَاتِهِ، نَطَقَ بِتَسْبِيحِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، عَلِمَ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالَمُ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَأَوْجَدَهُ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ بِهِ، وَسَيَّرَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَلَيْهِ، عَلِمَ خِذْلَانَ الْمُنَافِقِينَ لِلْيَهُودِ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّضُوهُمْ، فَكَانَ كَمَا عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَحَذَّرَ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى جَبَلٍ مَاذَا يَكُونُ حَالُهُ، فَحَثَّ الْعِبَادَ بِالْأَخْذِ بِهِ، وَلِعِلْمِهِ هَذَا بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، كَانَ حَقًّا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ.

ثُمَّ مَرَّةً أُخْرَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، بُرْهَانٌ آخَرُ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَبَرَاهِينَ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، الْمَلِكُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مُلْكِهِ الْقُدُّوسُ، الْمُسَلَّمُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، الْمُسَيْطِرُ عَلَى مَا فِي مُلْكِهِ كُلِّهِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٦٧ \ ١] .

وَهُنَا وَقْفَةٌ لِتَأَمُّلِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعًا عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْمَلِكِ الْقُدُّوسِ وَالسَّلَامِ الْمُهَيْمِنِ، فَنَجِدُهَاِ مُتَرَابِطَةً مُتَلَازِمَةً؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ وَلَمْ يُهَيْمِنْ عَلَى شَيْءٍ فَلَا فَعَالِيَّةَ لِعِلْمِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>