للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيُفَاوِضُ فِي أُسَارَى لَهُ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ - صلّى الله عليه وسلم - وَيَسْتَمِعُ مُفَاخَرَتِهِمْ وَيَأْمُرُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي النِّهَايَةِ يُسْلِمُونَ وَيُجِيزُهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَوَائِزِ، وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ، لِأَنَّ وَفْدًا يَأْتِي مُتَحَدِّيًا مُفَاخِرًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَجَاءَ فِي أَمْرٍ جَارٍ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ فَجَارَاهُمْ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بِالْمُفَاخَرَةِ بُعِثَ، وَلَكِنْ تَرَفُّقًا بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فَأَسْلَمُوا، وَهَذَا مَا تُعْطِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.

وَقَدْ بَحَثَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ نَوَاحِي النَّقْلِ وَأَخِيرًا خَتَمَ بَحْثَهُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتَصِلُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، جَمِيعَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتُهُ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ أَوْ مِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَلَا نَسَبَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَهُ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ.

وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَأُمِّهَا.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، يَقُولُ إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُنْصِفِينَ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ النَّاسَ وَيُعْطُونَهُمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَبِرُّونَ مَنْ بَرَّهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَفِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْحَثٌ هَامٌّ نَسُوقُهُ أَيْضًا بِنَصِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ:

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، قَالَ: يُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ تَأَثَّرَ مِنْ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ أَحْسَبُ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ فَرْضُ جِهَادِهِمْ وَقَطْعُ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَنَزَلَ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [٥٨ \ ٢٢] ، فَلَمَّا خَافُوا أَنْ تَكُونَ الْمَوَدَّةُ الصِّلَةَ بِالْمَالِ أَنْزَلَ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>